10/12/2023 - 12:33

غزة خارج ثنائيّة البؤس والبطولة | حوار مع أباهر السقّا

غزة خارج ثنائيّة البؤس والبطولة | حوار مع أباهر السقّا

أباهر السقّا، أستاذ علم الاجتماع في «جامعة بير زيت».

 

* لم تكن مدينة غزّة منطوية على ذاتها، بل كان لديها علاقات واسعة بمحيطها الإقليميّ العربيّ والداخليّ الفلسطينيّ.

* القوّة السياسيّة في غزّة تستمدّ قوّتها من البيئة الحاضنة لمشروع المقاومة. 

* غزّة ليست مخيّمًا كبيرًا كما يعتقد البعض أو مكانًا بائسًا، بل فيها كمّ هائل من المباني والأبراج. 

* العائلات المتنفّذة في غزّة شاركت في النضال والمقاومة على مرّ التاريخ.

 

يأخذنا أباهر السقّا، عبر كتابه «غزّة: التاريخ الاجتماعيّ تحت الاستعمار البريطانيّ، 1917-1948»، إلى الحياة الاجتماعيّة واليوميّة في غزّة، إبّان الاستعمار البريطانيّ حتّى نكبة 1948؛ إذ يقدّم قراءة جديدة من منظور سوسيولوجيّ في تفصيلات الحياة اليوميّة، والتعبيرات الاجتماعيّة والثقافيّة للأهالي ومؤسّساتهم، وطبيعة العلاقات الاجتماعيّة والأنماط الاستهلاكيّة، وأيضًا العلاقات بين العائلات والتشكيلات الحضريّة بين مدينة غزّة ومدن فلسطينيّة أخرى. كما يعرض التركيبة السوسيواقتصاديّة والسياسيّة للمدينة وسكّانها وعائلاتها، ويشرح آليّات صناعة الوجاهة الاجتماعيّة، عبر تتبّع سوسيوتاريخيّ.

أباهر السقّا أستاذ علم الاجتماع في «جامعة بير زيت» في «دائرة العلوم الاجتماعيّة والسلوكيّة»، وقد حصل على درجة الدكتوراة في عام 2005 من «جامعة نانت». وهو أيضًا أستاذ زائر في جامعات عديدة في فرنسا وبلجيكا. تتركّز اهتماماته البحثيّة الحاليّة على التاريخ الاجتماعيّ، وتأريخ العلوم الاجتماعيّة. له العديد من الدراسات والمقالات العلميّة في مجالات التعبيرات الاجتماعيّة الفنّيّة، والحركات الاجتماعيّة، والهويّة، والذاكرة، والوطنيّات، والسياسات الاجتماعيّة.

 في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة– ثقافيّة فلسطينيّة مع السقّا، نتحدّث معه عن قراءة هذا الكتاب في ظلّ الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، ونفتح نافذة تطلّ على الوجه الآخر لمدينة غزّة، غير ذلك الّذي نألفه في هذه الأيّام الراهنة.

 

فُسْحَة: اعتدنا قراءة مدينة غزّة ورؤيتها، خاصّة في ظلّ الظروف الراهنة من المنطلق السياسيّ، ما الدافع الّذي كنت تريد تحقيقه في هذا الكتاب الّذي يحاكي الحياة الاجتماعيّة في غزّة؟

السقّا: في الحقيقة، الدافع مركّب، أوّلًا شعرت كعالم اجتماع بأنّ ثمّة حاجة إلى كتابة التاريخ الاجتماعيّ لمدينة غزّة؛ بسبب وجود شحّ في هذا الجانب بالأدبيّات الّتي تتناول الحياة الاجتماعيّة في فلسطين مقابل الحالة السياسيّة هناك؛ فمعظم المؤرّخين والباحثين يطرحون مواضيع لها علاقة بنشوء الحركة الوطنيّة في غزّة، ويركّزون على الجانب السياسيّ. لهذا أردت أن أسدّ هذا الفراغ أو النقص، وأكتب عن مدينة غزّة بوصفها مكانًا مهمًّا في تاريخ الحداثة والحضرنة الفلسطينيّة. أمّا السبب الثاني فهو ذاتيّ، فجذوري مرتبطة بمدينة غزّة، ليس مسقط رأسي فحسب بل تاريخي وتاريخ عائلتي. هناك شعور بأنّ ثمّة دَيْنًا أريد أن أردّه إلى مدينتي وأنصفها، حيث تُسْتَثْنى عند الحديث عن التاريخ الحضريّ والثقافيّ وتاريخ الموانئ في فلسطين، حتّى أصبحت في المخيال العامّ والمخيال الفلسطينيّ محصورة في ثنائيّة المكان البائس أو مكان البطولات والصلابة، والتركيز بدلًا من ذلك على الحياة الاجتماعيّة في مدينة غزّة.

 

فُسْحَة: أشعر أنّ هناك غضبًا على الأرشيف الأكاديميّ الّذي استثنى مدينة غزّة عند تناول المدن الفلسطينيّة الّتي ساهمت في الحضرنة والحداثة في فلسطين، هل يعود ذلك إلى علاقة المعرفة بالقوّة المهيمنة، أو بجدليّة المعرفة والسلطة كما أسماها فوكو؛ فحين تُعْزَل مدينة غزّة على مستوى الجغرافيا والمخيال، تأتي المعرفة الأكاديميّة، وتعيد إنتاج هذا العزل عن طريق تهميشها؛ الأمر الّذي ينطوي عليه الكثير من التحدّيات لأنّ فيه عمليّة هدم للمعرفة الاستعماريّة، وأيضًا عمليّة  بناء؟

السقّا: صحيح، إضافة إلى أنّ ثمّة صعوبة منهجيّة في اختيار حدود المنطقة الّتي أريد تأريخها، أأكتفي بالحديث عن مدينة غزّة أم أتطرّق لقطاع غزّة؛ لوجود لبس في النظرة إلى القطاع؛ إذ يُنْظَر إليه مكانًا متجانسًا، لكن في نهاية الأمر اخترت أن أخصّص الكتاب في تأريخ مدينة غزّة، وتبيان أنّ النظر إلى قطاع غزّة مكانًا متجانسًا ما هو إلّا ضرب من السطحيّة واللاتاريخيّة.

 

فُسْحَة: أعتقد أنّ قراءة الكتاب في مثل هذه الظروف تختلف عن قراءته في ظروف أخرى؛ لأنّ قراءته في هذا الوقت تذكّر بحملات «نحن لسنا مجرّد أرقام» الّتي تحاكي الشهداء؛ لأنّ الكِتاب يفتح شبّاكًا على الحياة الاجتماعيّة في غزّة، ورؤية الأشخاص بعيدًا عن السياسة والأرقام. هذا الشبّاك يجعلنا نرى الحرب بطريقة أخرى، وندرك ماذا يعني أن يستشهد شخص، وكم هو مفجع كمّ الحيوات الّتي تُسْلَب...

السقّا: هذا كان أحد أهداف الكتاب كما أسلفت سابقًا، حيث أحاول من خلال الكتاب التركيز على الحياة الاجتماعيّة، والعائلات في غزّة، ونمط العلاقات، والعلاقة بين مجموعة من العائلات المتنفّذة في المدينة، وأنواع الوجاهة الاجتماعيّة.

هذا يطلعنا على شبكة العلاقات الاجتماعيّة الّتي أنتجتها عائلات المدينة مع عائلات وجاهيّة خارج فلسطين، ويركّز على دور الحضرنة في تغيير المدينة، التبدّلات الّتي حدثت على البنى الخدماتيّة، وشكل المدينة، وما إلى ذلك من تغيّرات.

 

فُسْحَة: يسلّط الكتاب الضوء على وجه آخر لمدينة غزّة، ما الملامح الّتي ركّزت على إبرازها في هذا الوجه؟

السقّا: لم تكن مدينة غزّة منطوية على ذاتها، بل كان لديها علاقات واسعة بمحيطها الإقليميّ العربيّ والداخليّ الفلسطينيّ، وكان لديها علاقات تجاريّة مع مصر، وسائر بلاد الشام، وكذلك مع عمقها الفلسطينيّ. وكانت نشطة على المستوى التجاريّ، وفيها حركة ملاحة، وقنصليّات أجنبيّة، وجاليات مهمّة من أرمن وأفغان وهنود ورجال أعمال ورحّالة، هذا له دور في تشكيل المدينة.

 

فُسْحَة: وعلى المستوى الحضريّ؟

السقّا: أعتقد أنّ مدينة غزّة من المدن النادرة في فلسطين الّتي فيها تخطيط حضريّ مذهل، فيها أرصفة، وهناك قانون للأرصفة. كما أنّ هناك قانونًا للبلديّة له علاقة بشكل البناء، والرصيف، وعرض الشارع، وفيها قانون لترقيم الشوارع منذ عام 1928، فإذا ما قارنّا غزّة بأيّ مدينة بالضفّة، مثل رام الله مثلًا، الّتي بدأ الترقيم فيها منذ بضع سنوات فقط.

التبدّلات الحضريّة تخلق تبدّلات على المستويين الثقافيّ والاجتماعيّ، غزّة فيها العديد من دور السينما، سبع سينمات في المدينة وحدها، وعندما نتحدّث عن السينما فإنّ هذا يعطينا لمحة عن الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة.

 

فُسْحَة: لماذا، حسب رأيك، يُهْمَل هذا الجانب في الأدبيّات الّتي تناولت مدينة غزّة؟

السقّا: كلّ ما يمكنني قوله أنّ هذا جزء من التاريخ الاجتماعيّ، وليس جزءًا من التاريخ المشتهى، ومَنْ يُهمله فلديه ربّما أسبابه الشخصيّة والأيديولوجيّة.

 

فُسْحَة: يقول الأسير في سجون الاستعمار الإسرائيليّة وليد دقّة: "أنت لست مستهدفًا بصفة كائن سياسيّ بالدرجة الأولى، وأنت لست مستهدفًا كائنًا دينيًّا أو كائنًا استهلاكيًّا تُمْنَع عنه ملذّات الحياة المادّيّة... لكن يبقى المستهدف بالدرجة الأولى الكائن الاجتماعيّ والإنسان فيك. المستهدف هو أيّ علاقة خارج الذات؛ أيّ علاقة يمكن أن تقيمها بالبشر والطبيعة..."، وعندما قرأتُ كتابك شعرت بأنّه ردّ على هذا الاستهداف؛ لأنّ فيه تشييدًا للتاريخ الاجتماعيّ في مدينة غزّة، بعيدًا عن التاريخ السياسيّ والبطولات الّتي حقّقتها المدينة على مرّ العصور. وفي هذه الحرب نستطيع أن نرى، من خلال متابعتنا للأخبار، أنّ هذا الكائن الاجتماعيّ في غزّة ما زال قائمًا وقادرًا على إقامة علاقة بالعالم والشعور بالمحبّة، رغم كلّ الألم والموت الّذي يحيط به، وهنا أعتقد أنّ ثمّة قوّة اجتماعيّة تقف خلف القوّة السياسيّة والعسكريّة، ما رأيك؟

السقّا: نعم، أعتقد أنّ القوّة السياسيّة في غزّة تستمدّ قوّتها من البيئة الحاضنة لمشروع المقاومة؛ فالمقاومة ليست مجرّد خيارات لها علاقة بأفراد، بل هناك حاضنات قاعديّة في المجتمع الغزّيّ تجعلنا ندرك وجود جذور مادّيّة وتاريخيّة للقوّة، عوضًا عن النظر إليها قوّةً وصمودًا آتيين من أنّ الأشخاص ليس لديهم ما يخسرونه، أعتقد أنّ هذه فكرة رومانسيّة ربّما تساهم في خلقها الرؤى التقليديّة بأنّ الفقر منبع الثورة.

صحيح أنّ هذا يعمل لكن جزئيًّا؛ فالقوّة في غزّة غير آتية من هشاشة بل من وجود حاضنة للمقاومة حتّى في العائلات المتنفّذة، فقد كانوا أبناء العائلات المتنفّذة في المقاومة المسلّحة؛ فالسياق يُنْتِج ممارسة بعيدًا عن فكرة البطولة الآتية من الفقر والقهر، فالّذي لا نعرفه، وربّما غير موجود في المخيال العامّ، أنّ ثمّة كمًّا هائلًا من الأشخاص لديهم ما يخسرونه، ولا سيّما على المستوى المادّيّ؛ فغزّة ليست مخيّمًا كبيرًا كما يعتقد البعض أو مكانًا بائسًا، بل فيها كمّ هائل من المباني والأبراج، والأشخاص هناك لديهم حيواتهم وحيواناتهم الأليفة، يعزفون على الآلات الموسيقيّة، ويتحدّثون العديد من اللغات، ويحبّون الحياة. صحيح أنّ هناك فروقات اجتماعيّة وثقافيّة، لكن لا أعتقد أنّ هذا يؤثّر بالضرورة في جاهزيّة الأشخاص لتقديم التضحية.

 

فُسْحَة: كان ثمّة أسلوب مميّز في التأريخ؛ بمعنى أنّك قارنت بين فترات تاريخيّة مختلفة؛ هذا يجعلنا نشعر بعدم الانقطاع، والحفاظ على سيرورة تاريخيّة متكاملة، بخلاف ما نحفظ عن غزّة في مخيالنا العامّ، وكأنّها مجموعة من الأحداث المتفرّقة الّتي لا نسمع عنها إلّا بالحروب، هل كان هذا مقصودًا؟

السقّا: في الحقيقة، أنا أفضّل هذه الطريقة غير التقليديّة في التأريخ، الّتي فيها ذهاب وإياب بين المعاصر والماضي في تفصيلات الحياة اليوميّة، كالسينما واللباس والطقوس؛ لأنّ ما يهمّ هو التبدّلات الّتي حدثت على المجتمع في غزّة.

 

فُسْحَة: لو أردت كتابة كتاب عن هذه الفترة في قطاع غزّة، هل ستكسب الحالة السياسيّة اهتمامك أكثر من الحياة الاجتماعيّة؟ وعلامَ كنت ستركّز؟

السقّا: الحالة السياسيّة والحالة الاجتماعيّة تكملان بعضهما بعضًا، أعتقد أنّني كنت سأركّز على الأعوام الستّة عشر من الحصار، وعلى آليّات الصمود والمقاومة الّتي جرى خلقها، وقدرة المجتمع الفلسطينيّ على تجاوز الأزمة بدون الوقوع في فخّ البطولة؛ لأنّ هذا سيقودنا إلى فهم معنى الحاضنة الاجتماعيّة. فإذا ما أردنا أن نفهم نمط المقاومة يجب أن نعود للوراء، هناك إرث تاريخيّ للمقاومة في غزّة، لا يشبه مكانًا آخر.

 

فُسْحَة: أشعر بأنّ لديك رغبة في تصويب رواية القوّة والصمود؛ من خلال تخليصها من فخّ مفهوم البطولة، لماذا يستفزّك هذا المفهوم؟

السقّا: إذا ما نظرنا إلى الأحداث التاريخيّة، في القرن الأخير في العالم، فسنرى أنّ هناك مجموعات كبيرة تقود حراكات ليس بالضرورة أن يكون أصحابها من الفئات المهمّشة.هذه الفلسفة آتية من طغيان المقاربات الماركسيّة التقليديّة حول اقتصار الثورة على الفقراء والمسحوقين، وفي الحقيقة هذا لا ينطبق بشكل كلّيّ على مدينة غزّة.

ببساطة، أعتقد أنّه يجب علينا التوقّف عن اعتقاد أنّ القوّة آتية من الهشاشة مقابل هذا الشكل من ضنك العيش؛ لأنّ هذه الرؤية تسطّح مفهوم المقاومة والصمود.

 

فُسْحَة: أعتقد أنّ هذه الرؤية تعمّقت بعد توقيع «اتّفاقيّة أوسلو»، وتأسيس «السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة» الّتي أظهرت جذورًا ليبراليّة جديدة، حيث كان مبرّر «أوسلو» هو تحسين مستوى المعيشة للفلسطينيّين، بشرط إخماد عمليّات المقاومة والمشاركة في عمليّة السلام، والحفاظ على استدامة السلام بتحقيق مكاسب ماليّة منه؛ فإنّ استثمار أموال أكثر يجعل الفلسطينيّ يشعر بصورة أفضل اقتصاديًّا؛ الأمر الّذي يسهّل عليه تقديم تنازلات سياسيّة. لذلك فإنّ تحقيق النموّ الاقتصاديّ، وما يتبعه من تداعيات فردانيّة في فلسطين، كان دائمًا أحد طرفَي عمليّة مقايضة مع أمن المستعمِر، فكي يتحقّق النموّ الاقتصاديّ للفلسطينيّ المستعمَر؛ لا بدّ من أن يتحقّق أمن المستعمِر؛ من خلال ترويض الروح المقاومة عند الأوّل، واستدراجه إلى مساحات التطبيع، ما رأيك؟

السقّا: صحيح، ولكنّي أعتقد رغم هذا أنّ الصراع مع المستعمر عابر للطبقات، خاصّة في مدينة غزّة، فكما أسلفت سابقًا فإنّ العائلات المتنفّذة في غزّة شاركت في النضال والمقاومة على مرّ التاريخ.

 

 

التعليقات